البحث في فراغ البَتْر | معرض

من مشروع «البحث في فراغ البَتْر»

 

أُنْجِزَ مشروع «البحث في فراغ البتر» للفنّانة البصريّة والتشكيليّة مجدل نتّيل ضمن برنامج «المنح والإقامات الفنّيّة» الّذي ينفّذه «محترف شبابيك للفنّ المعاصر»، والدائرة الفنّيّة لـ «الاتّحاد العامّ للمراكز الثقافيّة» في غزّة، وبدعم من مؤسّسة «عبد المحسن القطّان» عبر منحة مشروع «الفنون البصريّة: نماء واستدامة».

كتبت الفنّانة نتّيل في وصف المشروع، وولادته، وإمكانيّاته المستقبليّة في الكتاب الخاصّ بالمشروع:

"لماذا/ أين ذهبت فردة حذائي؟"، سؤال مُتبنّى من الجرحى الّذين بُتِرَتْ أقدامهم أثناء «مسيرات العودة» الكبرى. من المتوقّع أوّلًا أن يكون مسار المشروع بدأ من هذا السؤال الّذي يحمل استنكارًا وتعجّبًا كبيرين أعبُرُ من خلالهما إلى التقاطعات السياسيّة – الإنسانيّة الأكثر إحراجًا، حيث البحث في تفاصيل شخصيّة تعود لقصص واقعيّة. وثانيًا، أنّ الأعمال لن تقوم بدورها بمعالجات واقعيّة بقدر مساهمتها في العودة بالزمن، واستحضار ما استحال تسجيله على أنّه ذاكرة جماعيّة لإعادة تعيينه على أنّه كذلك، من خلال إعادة جمعه في رواية بصريّة.

بعد الذهاب إلى إجراء مقابلات فعليّة، ظهرت إلى العلن خطّة الضمّ، فاستجدّ – تأثرًا بالحدث السياسيّ – الاتّجاه نحو مقاربة البتر الجسديّ بالبتر الجغرافيّ، وإمكانيّة تحويل هذه المساءلات من مساءلات تخصّ الحالة الخاصّة للجرحى إلى مشروع أشمل، يدور حول ماذا إذا كانت الصورة العامّة مجرّد انعكاس لتأثير هذا البتر.

لم أكن قريبة من هذه المقاربة، لولا البدء بإجراء لقاءات مع جرحى مسيرات العودة، خاصّة عندما حدّثني أحدهم عن ألم يشعر به في عظامه وأصابع قدمه اليسرى، لكنّ عندما ينظر إلى قدمه لا يجدها. وقد حالت حالة الجريح وبطء معاملات التحويلات الطبّيّة، دون حصوله على طرف صناعيّ حتّى لقائي به، على الرغم من مرور عامين على إصابته، حينها فكّرت؛ كيف تؤلمنا أعضاؤنا المبتورة، أو الوطن بالمعنى المجازيّ؟

كيف نتشارك نحن ألم هذا الفقد مع هؤلاء الفاقدين؟ هل نشعر بعدم الاتّزان الّذي رافقهم بعد البتر؟ كيف تؤثّر إصابتنا على حياتنا الاجتماعيّة وطموحاتنا وأحلامنا؟ والأهمّ من ذلك: هل عشنا لحظتهم الأكثر وجعًا عندما وضعوا أيديهم في فراغ القدم المبتورة ليجدوا اللا شيء؟ هل جرّبنا جاهدين التأقلم مع أطراف صناعيّة كبديل؟ فعلى الرغم من زخم الصور المتدفّقة والمتخيّلة من طرح هذه الأسئلة، فإنّ التعامل معها للخروج بمخرج بصريّ لم يكن سهلًا؛ فالجرحى عاشوا جرّاء الفقد تحدّيات أليمة ستبقى معهم طوال حياتهم.

نقلتني هذه الأسئلة تلقائيًّا إلى التفكير في كيفيّة تبنّي ألم جسديّ لشخص آخر، بعد مقابلة واحدة من الصعب الوصول فيها لحديث عفويّ يؤدّي لقصص شخصيّة أبني عليها الأعمال.

فكيف لهذا الألم أن يعكس تشكيلًا بصريًّا يعبّر في الوقت ذاته عن فعل التفكيك الجغرافيّ، ليكون عملًا يعبّر عن ألم ذاتيّ؟

كان هناك بشكل متواز بحث بصريّ بدأ بسكتشات حبر على ورق، اقْتُبِسَتْ فيها الخطوط الناتجة عن ترسيم الحدود، في مساحة الشخوص نفسها، ليكون البحث بحثًا في التكوين والحالات الّتي يعكسها الشخوص. وانبثقت من هذه التجربة أسئلة تصبّ في سياق المقاربة الّتي أسعى إليها في هذا التشبيه المجازيّ؛ هل الجغرافيا هي الجزء المبتور كما ذكرت سابقًا، أم نحن؟ فقد تمّت الإشارة إلينا طوال سنوات على أنّنا مقتلعون نتيجة نكبة العام 1948 وما تلاها.

مع بدء نقل هذه التجربة على سطح اللوحة، تبدّدت تدريجيًا كلّ التخيّلات السابقة للأعمال، الشخوص، المساحات اللونيّة، التكوينات، ما أردت معالجته من الاسكتشات تبدّد بمجرّد الوقوف أمامه، إذ عادت كلّ هذه التركمات لتصير مساحتي ظلمة ونور. تنطوي مساحة الظلّ على الكثير من المكوّنات المرتبطة بالغياب كمفهوم، وربّما على حضور غير مرئيّ، أو كما شبّهت سابقًا فراغ القدم المبتورة، فقد ذكر شاكر حسن آل سعيد أنّ "شعورنا بالعالم هو حضور نسبيّ... هو وجودنا الذاتيّ، في حين أنّ غيابنا هو حضورنا الأزليّ".

أين يكمن شعورنا بالعالم ونسبيّته، وهل نشعر الآن مع هذا الألم بحضورنا الأزليّ؟ التَقَطْتُ عند هذه النقطة جميع التقاطعات. لم تكن هذه التجربة مجرّد مقاربة بين بترين، إنّما هي تردّ للصورة نفسها؛ صورة الأرض والإنسان. وأنا لا أبحث في هذا من خارج المشهد، أنا في الظلمة تمامًا، وهذه المحاولات كلّها هي محاولات للخروج إلى النور، أو إحضاره، أو جعل هذا الحضور الأزليّ أقلّ ألمًا. وما دام أيّ من هذا لم يتحقّق، فلا يزال العمل على هذا المشروع قائمًا.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة معرضًا رقميًّا لمشروع «البحث في فراغ البَتْر».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

مجدل نتّيل

 

 

فنّانة بصريّة تعيش وتعمل في قطاع غزّة. حصلت على بكالوريوس «الفنون الجميلة» من «جامعة الأقصى». أقامت عدّة معارض شخصيّة مثل «ملح الذاكرة» (2011)، «أثر الضوء والزجاج» (2013)، «لو لم أكن هناك» (2015).